كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا فِيهِ مَاءٌ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ مَاءٍ؛ لِأَنَّ قوله: {مَاءً} اسْمٌ مَنْكُورٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ لِإِطْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَبَاحَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَسُؤْرِ الْحَائِضِ وَإِنْ خَالَطَهُمَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِمَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْمُدِّ وَالسَّيْلِ مَعَ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِمُخَالَطَةِ الطِّينِ لَهُ وَمَا يَكُونُ فِي الصَّحَارَى مِنْ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ ذَلِكَ لَهُ يُرَى مُتَغَيِّرًا إلَى السَّوَادِ تَارَةً وَإِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ أُخْرَى، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ مَا خَالَطَهُ الْمَاءُ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ فَيَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكْفِهِ ثُمَّ اخْتَلَطَ بِهِ غَيْرُهُ فَكَفَاهُ بِاَلَّذِي خَالَطَهُ نَحْوِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ حَصَلَ بَعْضُ وُضُوئِهِ بِمَا لَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ مِمَّا لَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَطْهُرْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ إفْرَادِهِ بِالْغُسْلِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا خَالَطَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ إذَا كَانَ قَلِيلًا سَقَطَ حُكْمُهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لِمَا غَلَبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي خَالَطَهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ اللَّبَنِ وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ جُبٍّ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ لَا يُقَالُ لَهُ: شَارِبُ خَمْرٍ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ؟ كَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا كَانَ هُوَ الْغَالِبُ وَالْجُزْءُ الَّذِي خَالَطَهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا سَقَطَ حُكْمُهُ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْت فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إذَا كَانَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا خَالَطَهُ كَانَ كَافِيًا لِطَهَارَتِهِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ انْفِرَادِ الْمَاءِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَبَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ، فَإِذَا كَانَ لَوْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ مُنْفَرِدًا عَمَّا خَالَطَهُ مِنْ اللَّبَنِ وَمَاءِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ وَكَانَ طَهُورًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ غَيْرِهِ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ؛ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِك وَهَدْمِ أَصْلِك.
وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ تُجِيزَهُ؛ إذْ أَكْثَرُ غَسْلِ أَعْضَائِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مِنْ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَا لَوْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ كَانَ كَافِيًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ طَهُورًا.
فَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ طَهُورًا، قِيلَ لَهُ:
مُخَالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ السَّمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الطِّينِ بِمَاءِ السَّيْلِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ مُخَالِطًا لِلطِّينِ؟ وَكَذَلِكَ مَاءُ الْبَحْرِ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَاءُ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ، فَهُوَ إذًا مَعَ اخْتِلَاطِ غَيْرِهِ بِهِ مُتَطَهِّرٌ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ وَسَمَّاهُ طَهُورًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا جَوَازُ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ بِمُخَالَطَتِهِ النَّجَاسَةَ إيَّاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَاءُ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: الْمَاءُ الْمُخَالِطُ لِلنَّجَاسَةِ هُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَمْ يَصِرْ نَجِسَ الْعَيْنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُخَالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَمَا مَنَعْنَا الْوُضُوءَ بِهِ وَلَكِنَّا مَنَعْنَا الطَّهَارَةَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَاءً مُنْزَلًا مِنْ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا نَصِلُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَحْظُورٌ، فَإِنَّمَا مَنَعْنَا اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَإِنْ خَالَطَتْ الْمَاءَ، فَإِذَا حَصَلَ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ جَازَ، كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءِ الْقَرَاحِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ أَوْ بِمَاءِ الزَّعْفَرَانِ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ طَهَارَتَهُ.
وَقَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ بِمَا أُلْقِيَ فِيهِ كَافُورٌ أَوْ عَنْبَرٌ وَهُوَ يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُهُ وَبِمَا خَالَطَهُ وَرْدٌ يَسِيرٌ، وَإِنْ وَقَعَ مِثْلُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فَلَيْسَ قِيَاسُ النَّجَاسَةِ قِيَاسَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إذَا خَالَطَتْ الْمَاءَ.
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك أَنْ تُجِيزَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الَّذِي يُخَالِطُهُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ لَوْ انْفَرَدَ كِفَاءً لِوُضُوئِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ جَازَ وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ فِي حَالِ الْمُخَالَطَةِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى سَلَبَهُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ غَلَبَةَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ يَنْقُلُهُ إلَى حُكْمِهِ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْقَلِيلِ مَعَهُ، بِدَلَالَةِ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ خَمْرٍ لَوْ وَقَعَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهُ إنْسَانٌ لَمْ يُقَلْ: إنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ أَنَّ خَمْرًا صُبَّ فِيهِ مَاءٌ فَمُزِجَتْ بِهِ فَكَانَ الْخَمْرُ هُوَ الْغَالِبُ لَأَطْلَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَكَانَ حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ حُكْمَ شَارِبِهَا صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ.
وَأَمَّا مَاءُ الْوَرْدِ وَمَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَعُصَارَةُ الرَّيْحَانِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُمْنَعْ الْوُضُوءُ بِهِ مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ إلَّا بِتَقْيِيدٍ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَنِيَّ مَاءً بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} وَقَالَ: {وَاَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي شَيْءٍ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي إجَازَتِهِ الْوُضُوءَ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إجَازَتُهُ بِالْمَرَقِ وَبِعَصِيرِ الْعِنَبِ لَوْ خَالَطَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّيَمُّمُ بِالدَّقِيقِ وَالْأُشْنَانِ قِيَاسًا عَلَى التُّرَابِ.
فصل وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا تَيَقَّنَّا فِيهِ جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ أَوْ غَلَبَ فِي الظَّنِّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْبِئْرِ وَالْغَدِيرِ وَالْمَاءُ الرَّاكِدُ وَالْجَارِي؛ لِأَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْجَارِي.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَصْحَابِنَا لِلْغَدِيرِ الَّذِي إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي جِهَةِ تَغْلِيبِ الظَّنِّ فِي بُلُوغِ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ هَذَا كَلَامًا فِي أَنَّ بَعْضَ الْمِيَاهِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَبَعْضَهَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمَاءِ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ، فَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَدِيرٍ يُطْرَحُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَالْحَيْضُ فَقَالَ: تَوَضَّئُوا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَخْبُثُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْجُنُبِ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ: إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً فِي الْمَاءِ تَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ فَقَالَ: الْمَاءُ لَا يَتَنَجَّسُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ: لَا يُنَجَّسُ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ بِرِيحٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً: لَا يُخْبِثُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَوْضُ لَا يَغْتَسِلُ فِيهِ جُنُبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَرْبَعُونَ غَرْبًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ كَرًّا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذَا كَانَ قَدْرَ ثَلَاثِ قِلَالٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ مُسْكِرٍ قُطِرَتْ فِي قِرْبَةٍ مِنْ الْمَاءِ لَحُرِّمَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَى أَهْلِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيِّ: لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ بِالنَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ مَسَائِلُ فِي مَوْتِ الدَّجَاجَةِ فِي الْبِئْرِ: أَنَّهَا تُنْزَفُ إلَّا أَنْ تَغْلِبَهُمْ، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَنْ تَوَضَّأَ بِهِ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا عِنْدَهُ اسْتِحْبَابٌ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُهُ: إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ مَالِكٌ: إنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ هُوَ اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ.
وَقَالَ فِي الْحَوْضِ إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ جُنُبٌ: أَفْسَدَهُ، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَهُ اسْتِحْبَابٌ لِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ.
وَكَرِهَ اللَّيْثُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْبِئْرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الْجُنُبُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ الْكَثِيرِ الْقَائِمِ فِي النَّهْرِ وَالسَّبْخَةِ وَكَرِهَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ بِالْفَلَاةِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الْكُرِّ؛ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ؛ وَالْكُرُّ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رِطْلٍ وَمِائَتَا رِطْلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ الْيَسِيرَةِ.
وَاَلَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَالنَّجَاسَاتُ لَا مَحَالَةَ مِنْ الْخَبَائِثِ، وَقَالَ: {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وَقَالَ فِي الْخَمْرِ {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}.
وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْآخَرُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ انْفِرَادِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالْمَاءِ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا تَيَقَّنَّا فِيهِ جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ، وَيَكُونُ جِهَةَ الْحَظْرِ مِنْ طَرِيقِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِبَاحَةِ فَجِهَةُ الْحَظْرِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا مِائَةُ جُزْءٍ وَلِلْآخَرِ جُزْءٌ وَاحِدٌ أَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْؤُهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ غُلِّبَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ إذَا لَمْ تَجِدْ مَاءً غَيْرَهُ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ إذَا لَزِمَهُ فَرْضُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ هاهنا جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِيجَابِ.
قِيلَ لَهُ: قَوْلُك: إنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِيجَابِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي لَا نَجَاسَةَ فِيهِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ إذَا كَانَتْ مُتَجَرِّدَةً بِنَفْسِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُخَالِطَةً لِلْمَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهَا.
قِيلَ لَهُ: عُمُومُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيِ وَالسُّنَنِ قَاضٍ بِلُزُومِ اجْتِنَابِهَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ.
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ وَاجِدًا لِمَاءٍ غَيْرِهِ لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ يُوجِبُ الْحَظْرَ، وَالْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ مَتَى اجْتَمَعَا فَالْحُكْمُ لِلْحَظْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَ وَاجِدًا لِمَاءٍ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الْآيِ الْحَاظِرَةِ لِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَظْرَ قَدْ تَنَاوَلَهَا فِي حَالِ اخْتِلَاطِهَا بِهِ كَهُوَ فِي حَالِ انْفِرَادِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ وَبَيْنَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، فَإِذَا صَحَّ لَهَا ذَلِكَ فِي حَالِ وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ كَانَتْ الْحَالُ الْأُخْرَى مِثْلَهُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَوَجْهٌ آخَرُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي هِيَ فِيهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا} إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً غَيْرَهُ؛ وَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا مِنْ نَجَاسَةٍ إلَّا وَعَلَيْنَا اجْتِنَابُهَا وَتَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا إذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَالْمَاءُ الَّذِي لَا نَجِدُ غَيْرَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ لُزُومُ الِاسْتِعْمَالِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ إنْسَانٌ مَاءً غَيْرَهُ أَوْ غَصَبَهُ فَتَوَضَّأَ بِهِ كَانَتْ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةً؟ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُ طَهَارَتِهِ بِذَلِكَ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَظْرُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَارَ لِلُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَزِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجِدُ غَيْرَهُ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ الْمُوجِبُ لَاجْتِنَابِهَا أَوْلَى.